انقلاب 1997 في تركيا- شباط الأسود وتداعياته على الإسلاميين والعلمانيين

على الرغم من كثرة الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا على مدار القرن الماضي، يظل انقلاب عام 1997 محفورًا في ذاكرة الأمة التركية الحديثة؛ وذلك لما اكتنفه من أحداث جسيمة، وتطورات مفصلية، ونتائج وخيمة غيرت وجه تركيا سياسيًا واجتماعيًا.
ففي الثامن والعشرين من شهر فبراير/شباط، وقع الانقلاب العسكري بتدبير من القصر الجمهوري، مستهدفًا الحكومة الائتلافية التي كان يقودها حزب الرفاه الإسلامي برئاسة الراحل نجم الدين أربكان، بالاشتراك مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلر.
كان هذا الانقلاب بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الخلاف بين العلمانيين والإسلاميين، وزادت من حدة الصراع بينهما، وكادت أن تدفع بالبلاد إلى أتون مواجهات تهدد النسيج الاجتماعي للدولة، إذ أظهر بجلاء أن كل ما يمت بصلة للإسلام أو يستلهم منه يمثل خطرًا داهمًا على الأسس التي قامت عليها تركيا الحديثة، والتي تقوم على مبادئ العلمانية وفصل الدين عن الدولة.
شباط الأسود وتأثيراته
يحرص التيار الإسلامي والمحافظ في تركيا على استذكار هذه الذكرى الأليمة كل عام، باعتبارها الانقلاب العسكري الأكثر تأثيرًا على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، والذي لا تزال تداعياته عالقة في الذاكرة الجمعية للشعب، الذي يصر على استخلاص العبر والدروس منها، حتى يتمكن من مواصلة التقدم والحفاظ على المكتسبات التي تحققت في ظل السلطة المدنية التي تقود البلاد نحو التنمية والازدهار.
في المقابل، يتجاهل العلمانيون واليساريون هذه الذكرى عن عمد؛ وذلك للدور المريب الذي لعبته أحزابهم والمؤسسات الإعلامية التابعة لهم في ذلك الوقت، حيث كانوا الأداة التي استخدمها الجيش للإطاحة بحكومة أربكان المنتخبة، وتحريض الجماهير ضد قراراتها، وإسقاطها.
أربكان رئيسًا للوزراء
وفي شهادتي على الأحداث والإرهاصات التي سبقت الانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة في البلاد، أرى أن هناك بعض الجوانب التي يتم تجاهلها من قِبل المحللين والباحثين، ومنها على سبيل المثال عدم إبراز حجم التحديات والمعاناة التي واجهها الراحل نجم الدين أربكان لتشكيل حكومته وتولي منصب رئيس الوزراء، على الرغم من فوز حزبه الرفاه بالمرتبة الأولى في انتخابات عام 1996، وهي المرة الأولى التي يحقق فيها حزب ذو توجه إسلامي هذا الإنجاز منذ سقوط الدولة العثمانية، إلا أن هذه الأغلبية لم تكن كافية لتشكيل الحكومة منفردًا، مما دفعه إلى مهمة شاقة لإقناع الأحزاب الأخرى بالتحالف معه.
إلا أن تعليمات المؤسسة العسكرية لرؤساء هذه الأحزاب برفض التحالف معه كانت بمثابة العقبة الكأداء التي واجهته، لإجباره على التنازل عن تشكيل الحكومة، وهو ما كانت المؤسسة العسكرية تسعى إليه، للتخلص من أربكان وحزبه بهدوء ودون تدخل مباشر منها، مما قد يؤثر على الاستقرار في البلاد.
ولكن بفضل حنكة أربكان ومثابرته، تمكن من تحقيق ما بدا مستحيلاً في نظر الكثيرين، حيث نجح في إقناع تانسو تشيلر بالتحالف معه، واتفقا على أن يتولى أربكان منصب رئيس الوزراء لمدة عامين، على أن تشغل تشيلر منصبي نائب رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية، ثم تخلفه في رئاسة الوزراء لمدة عامين آخرين.
وقد شكل هذا الاتفاق صدمة حقيقية لرئاسة الجمهورية والمؤسسة العسكرية، اللتين اتفقتا على العمل معًا لإسقاط أربكان ومعاقبة شريكته تشيلر، التي كانت تعتبر الابنة المدللة للرئيس سليمان ديميرل، والذي دعمها بكل قوة لخلافته في رئاسة حزب الطريق القويم.
وبعد تشكيل الحكومة وتولي أربكان رئاسة الوزراء، بدأ في ممارسة مهامه دون مواربة لتوجهه الإسلامي، الأمر الذي دفع المؤسسة العسكرية إلى وضعه تحت رقابة مشددة، لرصد تحركاته والتنصت على اتصالاته، تحسبًا لفرصة مناسبة للإطاحة به.
تشويه صورة أربكان
بل سعت المؤسسة العسكرية إلى تشويه صورته أمام مؤيديه وأنصاره من التيار الإسلامي، وإظهاره بمظهر الخاضع لها والمنفذ لأوامرها، حيث تم إجباره على التوقيع على العديد من الاتفاقيات العسكرية والأمنية المتتالية مع إسرائيل، في سابقة لم يشهدها تاريخ تركيا، كما تم إجباره على السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجرليك لشن هجمات على العراق، وإعلان تأييده لإقامة كيان كردي في شمال العراق.
ورغم هذه الضغوط الهائلة، كان أربكان يرى أن هذه المرحلة تتطلب التعامل بحكمة وروية، ولم يغفل عن تحقيق حلمه بتعزيز علاقات بلاده مع العالم العربي والإسلامي، والتخلص من التبعية المهينة للغرب والاتحاد الأوروبي.
لذا بادر إلى تأسيس مجموعة الثمانية الاقتصادية، التي ضمت إلى جانب تركيا كلا من مصر وإيران وباكستان وإندونيسيا ونيجيريا وماليزيا وبنغلاديش؛ تمهيدًا لإقامة سوق إسلامية مشتركة، في محاولة منه لإنقاذ العالم الإسلامي من قبضة الهيمنة الغربية والأمريكية.
كما عمل على توسيع نطاق مدارس الأئمة والخطباء لتشمل جميع أنحاء تركيا ومختلف المراحل التعليمية، ودعا المواطنين إلى إنشاء مدارس لتحفيظ القرآن الكريم لجميع الأعمار؛ بهدف تنشئة جيل أكثر وعيًا بهويته الإسلامية، وأكثر إدراكًا للمسؤوليات الملقاة على عاتقه تجاه أمته، ووعد في إحدى خطبه ببناء مسجد في ميدان تقسيم، الذي يمثل رمز العلمانية التركية ومعقلها التاريخي، وإعادة فتح مسجد آيا صوفيا أمام المصلين.
وقبيل شهر رمضان، اقترح أربكان أن تصدر الحكومة قرارًا بالسماح للموظفين الصائمين بالعمل خلال فترة استراحة الغداء المعتادة، على أن يغادروا مبكرًا لقضاء وقت الإفطار مع أسرهم، إلا أن دعوته لعدد من المشايخ ورؤساء بعض الجماعات الدينية والصوفية التركية لتناول الإفطار في مقر رئاسة الوزراء كانت بداية لاستهدافه من قِبل المتربصين به وبحكومته، حيث تم التقاط صور لهم وهم يدخلون مقر رئاسة الوزراء مرتدين العمائم والعباءات والجلاليب، في مظهر أثار غضب الكماليين والعلمانيين واليساريين، الذين اعتبروه مظهرًا غير لائق بالجمهورية التركية، لتبدأ وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية العلمانية في شن حملة إعلامية واسعة حول العلمانية وتأثير تطبيق الشريعة على مستقبل الجمهورية.
وزادت الأمور تعقيدًا بزيارته إلى طرابلس، حيث استقبله العقيد معمر القذافي في إحدى خيامه، ووجه إليه اللوم علنًا لقبوله بإملاءات العسكر في بلاده وخضوعه لمطالبهم، الأمر الذي أثار ضده موجة من الانتقادات الشعبية.
إرهاصات الانقلاب
بعد هاتين الحادثتين، وقع حادثان كانتا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وعجلتا بالإطاحة بأربكان، أولاهما في السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1996، عندما نظمت إحدى الطرق الصوفية المتطرفة تظاهرة أمام جامع كوجا تبة في أنقرة للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية والتخلي عن مبدأ العلمانية، وإظهار العداء لأتاتورك.
أما الحادثة الثانية فكانت في الثلاثين من يناير/كانون الثاني عام 1997، عندما نظمت بلدية سنجان التابعة لحزب الرفاه برئاسة بكير يلدز مسيرة شعبية للاحتفال بيوم القدس وإعلان التضامن مع الشعب الفلسطيني تحت اسم "ليلة القدس"، وشارك فيها السفير الإيراني آنذاك علي رضاء بحيري، وأطلقت فيها شعارات تندد بإسرائيل وتطالب بالموت لها.
هذه التطورات المتسارعة أدت إلى نفاد صبر المؤسسة العسكرية، التي وجدت فيها فرصة سانحة للإطاحة بأربكان وإجباره على الاستقالة، فتم إخراج الدبابات والمدرعات إلى شوارع سنجان وإغلاق الطرق والميادين، واستيقظ الأهالي في صباح الرابع من فبراير/شباط عام 1997 على صوت هدير الدبابات التي بلغ عددها خمس عشرة دبابة وعشرين مدرعة، وهي تجوب الشوارع وتسد الطرق، في مشهد يوحي بالتمهيد لانقلاب عسكري ضد الحكومة المنتخبة.
وبدأ العسكر في إطلاق تصريحات تشير إلى أن "التيارات الرجعية تشكل خطرًا على الدولة التركية أكثر من حزب العمال الكردستاني الإرهابي"، وأن حكومة أربكان تدعم هذه التيارات.
خطوات إسقاط الحكومة
وفي الثاني والعشرين من يناير/كانون الثاني عام 1997، عقد قادة الجيش اجتماعًا لبحث مصير حكومة أربكان، وما تمثله من خطر على مستقبل النظام العلماني للجمهورية، وتم وضع خطة لتحريك الأوضاع لخلق مناخ متوتر يؤدي إلى الإطاحة به، وتم استدعاء عدد من رؤساء الجامعات والقضاة ومسؤولي اتحادات العمال والغرف التجارية إلى مقر رئاسة الأركان، وتحريضهم ضد الحكومة ومطالبتهم بإطلاق حملات شعبية ضد سياساتها، وانطلقت المظاهرات المنددة بأربكان وحكومته والمطالبة باستقالته.
وفي الثامن والعشرين من فبراير/شباط، انعقد مجلس الأمن القومي، الذي يضم أغلبية من العسكريين، برئاسة رئيس الجمهورية سليمان ديميريل، وبحضور قادة القوات المسلحة والاستخبارات العامة والحربية، وأهمهم رئيس الأركان إسماعيل حقي قره داي، ووزير الدفاع طورهان تايان، ووزيرة الداخلية ميرال أكشينار، وقادة القوات البرية والبحرية والجوية والدرك، والأمين العام لمجلس الأمن القومي، إلى جانب أربكان وتشيلر.
استمر هذا الاجتماع لمدة ثماني ساعات وخمس وأربعين دقيقة، وهو الأطول في تاريخ المجلس، وتم خلاله وضع قائمة من المطالب التي استهدفت الإسلاميين، ولكن أربكان لم ينفذ أيًا منها، ليقدم بعدها استقالته من رئاسة الوزراء، وتمت معاقبة تانسو تشيلر بمنعها من تولي رئاسة الوزراء، وتم تكليف مسعود يلماظ رئيس حزب الوطن الأم بتشكيل الحكومة، ليحقق العسكر هدفهم دون الحاجة إلى إخراج المزيد من الدبابات والمدرعات إلى الشوارع، ودون إطلاق رصاصة واحدة، ولا حتى إصدار بيان للأمة.
